الجمعة، 15 أبريل 2011

موقف نضالي (1) : القاضي محمد مرانت وسجنه الأول في عهد هيل سلاسي (1969)


 القاضي محمد مرانت وسجنه الأول* في عهد هيل سلاسي 

كانت لدى مخابرات الامبراطور هيل سلاسي ، معلومات أكيدة بأن الأستاذ/محمد مرانت ، يقود خلايا جبهة التحرير في بعض مدن إرتريا أهما مدينة كرن وقندع . ولكن لم يكن لديهم دليل مادي لإدانته (لاحظ دولة تحاول أن يكون لديها قانون ومؤسسات وليست مثل دولة أسياس دولة عصابات لا قانون ولا مؤسسات) . وكانو يتربصون به ليلقوا عليه القبض وهو متلبث بالجريمة وبيده دليل مادي يؤدي به إلى حكم الإعدام ويتخلصوا منه إلى الأبد .
وذات يوم غدا إلى محطة الباصات ليودع ابنة عمه (مكة أمير) والتي كانت قادمة من قرية حطاط صباح تلك اليوم في طريقها إلى السودان هرباً من المجازر التي كانت تمارس في قرى إرتريا . وكانت تحمل معها رسالة من جبهة التحرير المتمركزة في أطراف المدينة . التقى بها واستلم منها الرسالة وبينما هو في وداعها صعد إلى الباص ليطمئن على أمورها فإذا به يرى من خلال نافذة الباص عناصر الأمن الإثيوبية متجهة نحو الباص ، وبفطنته وشجاعته الثورية أدرك أنهم لا محالة متجهون لإلقاء القبض عليه . وتذكر تلك الرسالة التي في حوزته ، ذلك الدليل القاطع والذي يكفي أن يؤدي به إلى حبل المشنقة . تصرف بسرعة فائقة وأخذ الرسالة ووضعها في فمه . وهرع عناصر الأمن في تفتيشه بحثاً عن تلك الورقة وأخذوا يضربونه ويسألونه أين الورقة . وهو يمدغ فيها ويبتلعها وأخيراً اكتشفوا أنها في فمه فعمدوا يضربونه في رأسه وأضراسه لإنقاذ ذلك الدليل الذي جندوا الجنود وصرفوا الميزانيات من أجل الحصول على مثله . ولكن هيهات هيهات مع ثوار إرتريا الأبطال .
ولم يتمكنوا من إنقاذ أي شيء سوى فتات بسيط ومعجون ، واقتادوه إلى المعتقل ومعهم الدليل التالف وحققوا معه 15 يوماً (حيث كانت مدة التحقيق القانونية ولم تكون قابلة للتمديد) لعله يدلى باعترافات . وبعد انتهاء مدة التحقيق تم تحويله إلى المحكمة وبرأته المحكمة من التهمة الموجهة إليه من عناصر الأمن لعدم وجود دليل كافي يدينه بأنه متعاون مع المخربين على حد اعتقادهم (جبهة التحرير الإرترية)  ، وحكمت  عليه بالسجن لمدة عام وذلك لعدم تعاونه مع رجال الأمن عند تفتيشه .
وهكذا أصبح هذا الموقف أسطورة يتناقلها جيل التحرير الإرتري خلال النصف الأخير من القرن الماضي . وعلى سبيل المثال ، في شهر يناير عام 2011 ، زارتني أم هيثم وهي في طريق عودتها إلى أستراليا في بيتي وأخذت تحكي لزوجتي عن مواقف والدي النضالية . وعندما عدت إلى البيت قالت لي زوجتي أن أم هيثم حكت لي أن أباك "بلع ورقة" وقالت إنها كانت تحكيها بكل اهتمام ولكني لم أفهم مقصدها ،  وسألتني ما قصة "بلع الورقة" ؟!!!! فانتفضت لأحكي لها تلك القصة التي مضى عليها أربعون عاماً ولم أجد المناسبة لحكايتها خلال العشر سنوات الماضية .


والجدير بالذكر هناك بعض المواقف استوقفتني بل وأحزنتني لضياع هذا الموروث النضالي ، تحت تأثير سياسة الجبهة الشعبية التهجيرية التي عملت وما زالت تعمل على طمس تاريخ مثل هذه الرموز النضالية :
الموقف الأول : في عام (2005) عندما التقيت بشاب جاء من إريتريا بل من كرن تحديداً فعرفته بنفسي (عبد الرحمن مرانت) فوجدته لا يعرف الاسم "مرانت" ولم يسمع عنه ولم يعطيني اهتمام. فغيرت اللغة إلى لغة تناسب الحقبة الزمنية التي عاشها (حقبة هقدف) قلت له تعرف عباس ( Chee Chee) اسم الشهرة التي اكتسبها في سباق الدراجات الهوائية لسرعته الفائقة وتعني "الرشاش" . فانشرح لي وسلم علي بحرارة . 
الموقف الثاني : التقيت سعادة السفير/ألم ، سفير إرتريا إلى الهند في عام 2010 ، والذي كانت في زيارة للجالية الإرترية بماليزيا ، فظل يسألني من أين أنت ، وماذا تعني كلمة "مرانت" ، وهل عندك أصول يمنية ، ويقول مستغرباً لم يسمع بهذا الاسم من قبل. فأجبته كلمة مرانت تعني في لغة التجري الشجاعة والجرأة والبسالة .  وكان سفيرنا رجلاً لطيفاً يتحلى بدسامة الإرتريين وطول بال المناضلين . ولكنه فاجئني بأسئلته الساذجة ، حيث ابدى استغرابه بأنه يوجد إرتريون لا يتحدث أو لا يفهمون التجرينية . 


=  انتهت الخاطرة =


* سجن القاضي محمد مرانت ثلاثة مرات ، مرتين في عهد الإمبراطور هيلي سلاسي ، والسجن الثالثة والأخير في عهد أسياس . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق